تعيش الأسواق العالمية حالة من عدم اليقين بين المستثمرين ومتخذي القرار، نتيجة ما نعاصره الآن من أزمات اقتصادية وسياسية تصيب العالم الواحدة تلو الأخرى، بداية من أزمة كوفيد-19 ثم الحرب الروسية الأوكرانية وما سببته من أزمات أصابت قارات العالم كله خصوصًا من ناحية الطاقة والغذاء، وارتفاع مستويات التضخم بشكل هستيري مما أرغم الفيدرالي الأمريكي على أن يتخذ قرارات مثل رفع مستوى الفائدة على الدولار الأمريكي، مما أضر بالاقتصادات والدول الناشئة وحركة التجارة العالمية بين تلك الدول، ولكن ما يزيد من سرعة تفاقم المشكلة في هذه الدول الحرب التجارية القائمة منذ 2018م بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الصين، والتي سنتعرف على تاريخها فيما يلي.
الحرب التجارية العالمية
في يناير من عام 1979م أعادت الولايات المتحدة والصين العلاقات الدبلوماسية بينهما، ومنذ ذلك الحين زادت التجارة بين البلدين بشكل ملحوظ وسريع، وتأكيدًا على عودة العلاقات التجارية بين البلدين، وقعت الصين والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية تجارية ثنائية في يوليو 1979م تضمنت مبدأ الدولة الأعلى أفضلية أو الأولى بالرعاية Most Favoured Nation فيما يخص العلاقات التجارية بين البلدين، وهو ما يعني أن الدولة المستقبلة ستمنح جميع المزايا التجارية ومنها على سبيل المثال التعريفات الجمركية المخفضة وإلى آخره من المزايا التجارية، وهذا القانون أو الاتفاقية تعتبر واحدة من الركائز الأساسية لقانون التجارة التي تعتمد عليها منظمة التجارة العالمية، وفي عام 1980م بلغ إجمالي التجارة بين الولايات المتحدة والصين حوالي 4 مليار دولار، واحتلت الصين في ذلك الوقت المركز 24 بين أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، واعتُبرت سوق التصدير رقم 16 وأكبر مصدر للواردات الأمريكية، ومنذ ذاك الحين ازدادت المبادلات التجارية بشكل سريع بين البلدين.
ومع زيادة عجز الميزان التجاري الأمريكي خلال الفترة 1990م-2017م باستثناء سنة 2016م التي شهدت انخفاض عجز الميزان التجاري من 367,3 مليار دولار إلى 347 مليار دولار ولكن يظل ذلك العجز لصالح الصين، والعجز التجاري يعد من بين الأسباب الرئيسية التي فتحت أبواب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وفي سنة 2018م وصل حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة إلى 737 مليار دولار منها 179 مليار دولار صادرات أمريكية مقابل 558 مليار دولار واردات من الصين، وبالتالي هناك فائض بقيمة 419 مليار دولار لصالح الصين، وهو ما أجبر الولايات المتحدة الأمريكية على اتخاذ أولى القرارات بتطبيق أول تعريفات جمركية محددة مخصصة للصين، وقيام هيئة الجمارك وحماية الحدود بتحصيل تعريفة جمركية بنسبة 25% على 818 منتجًا صينيًا مستوردًا بقيمة 34 مليار دولار، وفي المقابل ردت الصين في اليوم نفسه بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على 545 سلعة أمريكية المنشأ بقيمة 34 مليار دولار.
واستمرت المعارك التجارية بين الطرفين إلى أن تم الاتفاق على عقد هدنة بين البلدين، تنص على تقليص العجز التجاري بين الدولتين بمقدار 200 مليار دولار أمريكي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية في عامين، وزيادة نفاذ الشركات الأمريكية إلى أسواق الزراعة والطاقة والأسواق المالية الصينية، وإعادة الشركات الأمريكية للإنتاج وتوفير المزيد من الوظائف للمواطنين الأمريكيين داخل الولايات المتحدة، بجانب الحفاظ على التفوق التكنولوجي الأمريكي.
تأثير الحرب التجارية على الأسواق الناشئة
أقر صندوق النقد الدولي طبقًا لآخر توقعاته أن قارة آسيا ستكون من أكبر الخاسرين عالميًا في حالة حدوث انقسام دولي بنظام التجارة العالمي خاصةً إقليم آسيا بالمحيط الهادي، لأنها تعتبر لاعبًا أساسيًا في سلاسل الإمدادات العالمية، وتأتي نصف الواردات إلى الولايات المتحدة الأمريكية من دول آسيوية عدة، وتمثل الدول الآسيوية ما يقارب نصف الطلب العالمي على السلع الأساسية.
وسيكون للانقسام التجاري تأثيرًا كبيرًا جدًا في هذه المنطقة أكثر من أي مكان آخر، فحوالي أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الآسيوية من الممكن أن تفقدها في حالة انقطاع التجارة خصوصًا في القطاعات المتضررة مثل قطاع الرقائق الإلكترونية. وأضاف الصندوق أن بسبب الانقسام التجاري بين الصين والولايات المتحدة، أُجبِرت أسواق العمل على الانكماش بسبب القيود التجارية المرتفعة، وطبقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي، ستتأثر عمليات التوظيف بشكل سلبي من المتوقع أن يصل إلى 7% من إجمالي عمليات التوظيف، وبشكل عام هناك حالة من الضبابية وعدم اليقين في السياسات المتعلقة بالتجارة نتيجة القيود المفروضة مما سيجبر شركات كثيرة على وقف عمليات التوظيف وتقليل حجم الاستثمارات المطروحة خصوصًا في الأسواق الناشئة في آسيا والشركات مرتفعة الديون.
وتضم الأسواق الناشئة حوالي من 20 إلى 30 دولة حسب التصنيفات العالمية المختلفة، من ضمنها دول مثل البرازيل والهند وتركيا، ومصر والسعودية والإمارات وغيرها من الدول، وتزيد أهمية الدول الناشئة لأن معظم الدول العربية تنتمي لهذه الفئة من الاقتصادات، ومن الواضح أن هناك حالة من الضبابية أو عدم اليقين بخصوص تأثير الانقسام على الدول الناشئة خصوصًا في ظل سياسات التقييد التجاري التي تفرضها كل من الصين والولايات المتحدة بين الدول المؤيدة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية والأخرى التي تعارضها أو تمتنع عن التصويت، وبالطبع ستكون الخسائر أكبر في الدول التي تكبر فيها التجارة مع الكتلة الأخرى بسبب فقدان أسواق التصدير وانقسام شبكات الإنتاج.